في الصحيحين عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتدري أين تذهب هذه الشمس إذا غربت؟ قلت: لا. قال: إنها تنتهي فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن، فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً".
أثار هذا الحديث في قلبي شبهة! إذ يفهم منه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم من منطلق أن الأرض مسطحة وثابتة، والشمس هي التي تدور حولها، تخرج من المشرق، وتغرب من المغرب، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فأشكرك أخي- على طرح مثل هذه الأسئلة، والبحث عن مخرج لما يقع في القلب من الشبه، فإن العبد إذا أهمل السؤال عن مثل هذه الأمور، ربما أدت به إلى نهايات خطيرة يدخل منها الشيطان على قلب العبد؛ فَيفسِدُ عليه دينه.
أما بالنسبة لما سألت عنه، فجوابه فيما يلي:
1- اعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه - أنه إذا صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يمكن أبدا أن يكون معارضاً لما هو كائن في الواقع، بل إما أن فهمنا للواقع غير صحيح، أو فهمنا للنص غير صحيح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخبر إلا بالحق، وأخبار الوحي كتاباً وسنة - لا يمكن أن يدخلها الخطأ.
فيبقى الأمر في حقنا - هو: وجوب النظر فيما يزيل هذا الإشكال الذي وقع في نفوسنا.
2- اعلم - وفقك الله - أن ظواهر الكتاب والسنة تكاد تصل إلى حد الصراحة - وأؤكد على كلمة ظواهر في أن الحركة إنما تصدر من الشمس لا من الأرض، ومن ذلك هذا الحديث، ومنه أيضاً- آيات كثيرة في كتاب الله - تعالى -، أذكرها الآن؛ ليتضح لك هذا المعنى بشكل جلي:
أ- قوله - تعالى -: " فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً " [الأنعام: 78]. فنسب البزوغ لها.
ب- قوله - تعالى - في قصة أصحاب الكهف-: "وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَال" [الكهف: 17]. فهذه أربعة أفعال نسبت إلى الشمس: الطلوع، والغروب، والتزاور والقرض.
ج- وفي قصة ذي القرنين يقول - تعالى -: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ". إلى قوله "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ". [الكهف: 86-90]. فنسب الغروب والطلوع إليها.
د- ومن أصرح الأدلة قوله - تعالى -: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" إلى قوله - سبحانه -: "لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" [يس: 38-40]. فنسب الجري والإدراك للشمس.
هـ- وفي قصة سليمان - عليه الصلاة والسلام -، قال الله - تعالى -عنها: "حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ" [ص: 32]. أي أن الشمس غربت، فنسب التواري إليها.
فأنت ترى وفقك الله- أن نسبة هذه الأفعال كلها للشمس ظاهر في أنها تتحرك.
إذا علم ذلك، فاعلم أن القرآن لم ينف أن الأرض تتحرك ولم يثبت ذلك أيضاً-، وعليه فلا تعارض بين القرآن والواقع العلمي الذي يثبت حركة الأرض، ويكون ما ذكر من نسبة الأفعال إلى الشمس- هو باعتبار نظر العين لها.
3- فيما يخص سجود الشمس، وذهابها وسجودها تحت العرش. وكيفية تصوره مع أنها إنما تغرب عنا لتشرق على آخرين، فالجواب عنه سهل بحمد الله- وذلك من وجهين:
الأول: إنه لا مانع أن تكون الشمس في حالة سجود دائم لربها - عز وجل -، وهذا ليس بغريب إذا تصورت أن كل ما في السماوات والأرض يسجد لله، وأن سجود كل شيء بحسبه، كما قال - تعالى -: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" [الحج: 18].
ومن المعلوم أن سجود الآدميين ليس كسجود السماوات والأرض وبقية هذه المخلوقات العظيمة التي ذكرها الله - تعالى - في هذه الآية، والفعل المضارع يفيد التجدد والاستمرار.
ولا عجب فالملائكة وهم مخلوقون يتكلمون ويبصرون ويقومون بوظائف جليلة- يقول الله عنهم: "يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ" [الأنبياء: 20]. فإذا كان هذا في حق هذه المخلوقات التي كلفت ببعض الوظائف فما ظنك بالجمادات؟! هي من باب أولى في ديمومة سجودها لله - تعالى -، ومنها الشمس، فهي في حالة سجود واستئذان دائمين في شروقها وغروبها.
فإن قلت: إن قوله في الحديث: "ثم تذهب تسجد" مشعر بأن هناك سجود غير السجود العام الذي دلّت عليه الآية؟!
فالجواب: هذا الذي ذُكر في الإيراد محتمل، والمخرج منه أن يقال:
إن مجرد غروب الشمس عن أعيننا في قطر من الأقطار هو في الوقت ذاته سجود لها، وإن كانت تظهر على آخرين، وهذا تصوره غير عسير بحمد الله -، ونظيره ما يقال عن كسوف الشمس، فإنك تعلم وفقك الله- أن الشمس قد تنكسف عن بلدٍ، بينما بلدان أخرى لا يحصل فيها كسوف، مع أن الأرض واحدة والشمس واحدة، فإذا كان هذا متصوراً في الأمور المحسوسة، فتصوره في الأمور الغيبية المعنوية من باب أولى.
الثاني: أن الشمس إنما هي في هذا الكون العظيم - جرم صغير، فأينما سجدت فهي ساجدة تحت عرش الرب - عز وجل -.
هذا مبلغ علمي في هذه المسألة، وأرجو أن نتخلص بهذا الجواب مع ما سأذكره لك لاحقاً- من هذا الإشكال، فإن انشرح صدرك لهذا الجواب فالحمد لله، وهذا هو المطلوب، وإلا فعلينا -جميعاً- أن نؤمن ونصدق وإن لم تدرك عقولنا الحقيقة، ونقول: صدق الله ورسوله، مبتعدين بذلك عن مسالك بعض الناس الذين جعلوا عقولهم حاكمة على النصوص، من أمثال المعتزلة أو من تأثر بمسلكهم، يطعنون في هذا الحديث بحجة أنه خبر آحاد!!
وما أعظم جناية هؤلاء على الشريعة! وإنني لأتعجب منهم هل أحاطت عقولهم بالغيب؟!
أليسوا يجهلون كنه وحقيقة الروح التي بين جنوبهم؟! فكيف يتصورون أنهم لابد أن يفهموا وجهة كل نص من النصوص التي تتحدث عن الأمور الغيبية سواء في الدنيا، أو في الآخرة؟!
وكم من الأحاديث التي تتحدث عن أمور غيبية لو حكمنا فيها عقولنا القاصرة لعجزنا عن إدراكها، ولكن معاذ الله أن نجعل عقولنا حاكمة على خبر الله ورسوله، بل نقول في باب الأخبار: آمنا وصدقنا. وفي باب الأحكام: سمعنا وأطعنا. وسيأتي في الفقرة التالية مزيد إيضاح لهذه المسألة العظيمة.
4- ثمة قاعدة تذكر في هذا الباب أعني باب الإشكالات التي ترد في النصوص مع الواقع وغيره وهي قاعدة تريح قلب المؤمن إذا أخذ بها، وهي: أنه إذا لم تزل عنك الشبهة -مع صحة النص الشرعي- فعليك بالتسليم والتصديق ولو لم تفهم، فإن هذه هي حقيقة العبودية، وقل كما قال خيار هذه الأمة: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة: 285].
بل هذه طريقة الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم بقوله: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" [آل عمران: 7-8].
ولقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في الانقياد والتسليم، وإن كان الأمر في أول وهلة على غير ما تهواه نفوسهم، أولم يفهموا الغرض منه، وإليك مثالاً واحداً يجلي هذه المعاني، ففي الصحيحين أن ظهير بن رافع، وهو عم رافع بن خديج -رضي الله عنهما- لما بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صورة معينة من صور المزارعة، قال: لقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا رافقاً يعني فيه رفق بنا- قال - رضي الله عنه -: وطواعية الله ورسوله أنفع لنا. صحيح البخاري (2339)، وصحيح مسلم (1548).
ولما حدّث النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث الدجال، قال الصحابة رضي الله عنهم-: وما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم". قلنا: يا رسول الله: فذلك اليوم الذي كسنةٍ أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقدروا له قدره". صحيح مسلم (2937).
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
السؤال:
في الصحيحين عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتدري أين تذهب هذه الشمس إذا غربت؟ قلت: لا. قال: إنها تنتهي فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن، فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً".
أثار هذا الحديث في قلبي شبهة! إذ يفهم منه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم من منطلق أن الأرض مسطحة وثابتة، والشمس هي التي تدور حولها، تخرج من المشرق، وتغرب من المغرب، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فأشكرك أخي- على طرح مثل هذه الأسئلة، والبحث عن مخرج لما يقع في القلب من الشبه، فإن العبد إذا أهمل السؤال عن مثل هذه الأمور، ربما أدت به إلى نهايات خطيرة يدخل منها الشيطان على قلب العبد؛ فَيفسِدُ عليه دينه.
أما بالنسبة لما سألت عنه، فجوابه فيما يلي:
1- اعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه - أنه إذا صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يمكن أبدا أن يكون معارضاً لما هو كائن في الواقع، بل إما أن فهمنا للواقع غير صحيح، أو فهمنا للنص غير صحيح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخبر إلا بالحق، وأخبار الوحي كتاباً وسنة - لا يمكن أن يدخلها الخطأ.
فيبقى الأمر في حقنا - هو: وجوب النظر فيما يزيل هذا الإشكال الذي وقع في نفوسنا.
2- اعلم - وفقك الله - أن ظواهر الكتاب والسنة تكاد تصل إلى حد الصراحة - وأؤكد على كلمة ظواهر في أن الحركة إنما تصدر من الشمس لا من الأرض، ومن ذلك هذا الحديث، ومنه أيضاً- آيات كثيرة في كتاب الله - تعالى -، أذكرها الآن؛ ليتضح لك هذا المعنى بشكل جلي:
أ- قوله - تعالى -: " فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً " [الأنعام: 78]. فنسب البزوغ لها.
ب- قوله - تعالى - في قصة أصحاب الكهف-: "وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَال" [الكهف: 17]. فهذه أربعة أفعال نسبت إلى الشمس: الطلوع، والغروب، والتزاور والقرض.
ج- وفي قصة ذي القرنين يقول - تعالى -: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ". إلى قوله "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ". [الكهف: 86-90]. فنسب الغروب والطلوع إليها.
د- ومن أصرح الأدلة قوله - تعالى -: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" إلى قوله - سبحانه -: "لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" [يس: 38-40]. فنسب الجري والإدراك للشمس.
هـ- وفي قصة سليمان - عليه الصلاة والسلام -، قال الله - تعالى -عنها: "حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ" [ص: 32]. أي أن الشمس غربت، فنسب التواري إليها.
فأنت ترى وفقك الله- أن نسبة هذه الأفعال كلها للشمس ظاهر في أنها تتحرك.
إذا علم ذلك، فاعلم أن القرآن لم ينف أن الأرض تتحرك ولم يثبت ذلك أيضاً-، وعليه فلا تعارض بين القرآن والواقع العلمي الذي يثبت حركة الأرض، ويكون ما ذكر من نسبة الأفعال إلى الشمس- هو باعتبار نظر العين لها.
3- فيما يخص سجود الشمس، وذهابها وسجودها تحت العرش. وكيفية تصوره مع أنها إنما تغرب عنا لتشرق على آخرين، فالجواب عنه سهل بحمد الله- وذلك من وجهين:
الأول: إنه لا مانع أن تكون الشمس في حالة سجود دائم لربها - عز وجل -، وهذا ليس بغريب إذا تصورت أن كل ما في السماوات والأرض يسجد لله، وأن سجود كل شيء بحسبه، كما قال - تعالى -: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" [الحج: 18].
ومن المعلوم أن سجود الآدميين ليس كسجود السماوات والأرض وبقية هذه المخلوقات العظيمة التي ذكرها الله - تعالى - في هذه الآية، والفعل المضارع يفيد التجدد والاستمرار.
ولا عجب فالملائكة وهم مخلوقون يتكلمون ويبصرون ويقومون بوظائف جليلة- يقول الله عنهم: "يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ" [الأنبياء: 20]. فإذا كان هذا في حق هذه المخلوقات التي كلفت ببعض الوظائف فما ظنك بالجمادات؟! هي من باب أولى في ديمومة سجودها لله - تعالى -، ومنها الشمس، فهي في حالة سجود واستئذان دائمين في شروقها وغروبها.
فإن قلت: إن قوله في الحديث: "ثم تذهب تسجد" مشعر بأن هناك سجود غير السجود العام الذي دلّت عليه الآية؟!
فالجواب: هذا الذي ذُكر في الإيراد محتمل، والمخرج منه أن يقال:
إن مجرد غروب الشمس عن أعيننا في قطر من الأقطار هو في الوقت ذاته سجود لها، وإن كانت تظهر على آخرين، وهذا تصوره غير عسير بحمد الله -، ونظيره ما يقال عن كسوف الشمس، فإنك تعلم وفقك الله- أن الشمس قد تنكسف عن بلدٍ، بينما بلدان أخرى لا يحصل فيها كسوف، مع أن الأرض واحدة والشمس واحدة، فإذا كان هذا متصوراً في الأمور المحسوسة، فتصوره في الأمور الغيبية المعنوية من باب أولى.
الثاني: أن الشمس إنما هي في هذا الكون العظيم - جرم صغير، فأينما سجدت فهي ساجدة تحت عرش الرب - عز وجل -.
هذا مبلغ علمي في هذه المسألة، وأرجو أن نتخلص بهذا الجواب مع ما سأذكره لك لاحقاً- من هذا الإشكال، فإن انشرح صدرك لهذا الجواب فالحمد لله، وهذا هو المطلوب، وإلا فعلينا -جميعاً- أن نؤمن ونصدق وإن لم تدرك عقولنا الحقيقة، ونقول: صدق الله ورسوله، مبتعدين بذلك عن مسالك بعض الناس الذين جعلوا عقولهم حاكمة على النصوص، من أمثال المعتزلة أو من تأثر بمسلكهم، يطعنون في هذا الحديث بحجة أنه خبر آحاد!!
وما أعظم جناية هؤلاء على الشريعة! وإنني لأتعجب منهم هل أحاطت عقولهم بالغيب؟!
أليسوا يجهلون كنه وحقيقة الروح التي بين جنوبهم؟! فكيف يتصورون أنهم لابد أن يفهموا وجهة كل نص من النصوص التي تتحدث عن الأمور الغيبية سواء في الدنيا، أو في الآخرة؟!
وكم من الأحاديث التي تتحدث عن أمور غيبية لو حكمنا فيها عقولنا القاصرة لعجزنا عن إدراكها، ولكن معاذ الله أن نجعل عقولنا حاكمة على خبر الله ورسوله، بل نقول في باب الأخبار: آمنا وصدقنا. وفي باب الأحكام: سمعنا وأطعنا. وسيأتي في الفقرة التالية مزيد إيضاح لهذه المسألة العظيمة.
4- ثمة قاعدة تذكر في هذا الباب أعني باب الإشكالات التي ترد في النصوص مع الواقع وغيره وهي قاعدة تريح قلب المؤمن إذا أخذ بها، وهي: أنه إذا لم تزل عنك الشبهة -مع صحة النص الشرعي- فعليك بالتسليم والتصديق ولو لم تفهم، فإن هذه هي حقيقة العبودية، وقل كما قال خيار هذه الأمة: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة: 285].
بل هذه طريقة الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم بقوله: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" [آل عمران: 7-8].
ولقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في الانقياد والتسليم، وإن كان الأمر في أول وهلة على غير ما تهواه نفوسهم، أولم يفهموا الغرض منه، وإليك مثالاً واحداً يجلي هذه المعاني، ففي الصحيحين أن ظهير بن رافع، وهو عم رافع بن خديج -رضي الله عنهما- لما بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صورة معينة من صور المزارعة، قال: لقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا رافقاً يعني فيه رفق بنا- قال - رضي الله عنه -: وطواعية الله ورسوله أنفع لنا. صحيح البخاري (2339)، وصحيح مسلم (1548).
ولما حدّث النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث الدجال، قال الصحابة رضي الله عنهم-: وما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم". قلنا: يا رسول الله: فذلك اليوم الذي كسنةٍ أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقدروا له قدره". صحيح مسلم (2937).
فانظر إلى عمق علم الصحابة - رضي الله عنهم-، كيف لم يقولوا: كيف يكون اليوم كسنة، أو كشهر، أو كجمعة؟ لأنهم يعلمون أن من جعل اليوم (24ساعة)، قادر على جعله أسبوعاً (168ساعة)، وقادر على جعله شهراً (720 ساعة)، وهكذا، بل سألوا عما يخصهم، وهو أمر دينهم، سألوا عن صلاتهم! فرضي الله عنهم وأرضاهم، ما أعمق علمهم، وأقوى تصديقهم! نسأل الله - تعالى - أن يرزقنا السير على طريقتهم في العلم والعمل، وأن يجمعنا بهم في الجنة بحبنا إياهم، والله - تعالى -أعلم.