الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
لا شك أن "القومية العربية" كانت أحد أهم المسامير التي دُقت في نعش "الخلافة الإسلامية"، وذلك عن طريق تحريض "إنجلترا" لـ "الشريف حسين" أن يـُعلن ما أسماه بـ "الثورة العربية" ضد "الخلافة العثمانية"، ونتيجة لذلك حاربت "الدولة العثمانية" جنبـًا إلى جنب مع "جيوش إنجلترا" في "فلسطين"، ثم غدرت "إنجلترا" به، ومكنت اليهود من "فلسطين"، وإن كان هذا لم يمنعه هو وابنه "عبد الله" من بعده من الاستمرار في حلفهم حتى خاض حرب 48، وقائد جيشه هو "جلوب باشا" الإنجليزي، والذي أصبح هو القائد العام للجيوش العربية آنذاك.
وكان من نتائج حرب 48 أن خفتت رايات "القومية العربية الملكية" وحل محلها "القومية العربية الثورية" بقيادة "عبد الناصر"، والتي نالت هي الأخرى هزيمة منكرة في حرب 67، والتي كان من ثمارها عودة الروح الإسلامية على المستوى الشعبي، بل والرسمي؛ وهو ما هيأ لحرب 73، والتي سارت بعدها مصر ومن بعدها كافة العرب في طريق السلام، وبقي الدفاع عن "فلسطين" قضية وطنية للفلسطينيين، إلى أن استقرت قيادتها الفعلية في أيدي الإسلاميين، لا سيما حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، واللتان قامتا بالتصدي لهجمة صهيونية بربرية، وقد رفعت أسهم التأييد لهما في العالم الإسلامي كله.
وكنا قد وقفنا من المجاهدين في غزة موقف التأييد، شأننا شأن السواد الأعظم من الاتجاهات الإسلامية في العالم أجمع، ولكن البعض قد استشكل منا هذا الموقف لسببين رئيسيين:
الأول: الجذور الإخوانية لكل من الحركتين.
الثاني: التحالف القائم بين كل من الحركتين و"إيران".
فأما الأول فمن تتبع موقفنا من قضية الخلاف بين الاتجاهات الإسلامية -لا سيما الموضح في كتاب "فقه الخلاف" للشيخ "ياسر برهامي"- يعرف أننا نحب الخير لجميع المسلمين، وأننا نساندهم ونؤيدهم فيه، وإن أنكرنا عليهم غيره مما نراه مخالفًا للشرع.
ولكن الأمر الثاني هو الذي في حاجة إلى وقفة نستجلي فيها الواقع ونُقدِّره بقدره:
بدأت حركة المقاومة المسلحة الفلسطينية بجميع أطيافها بعد حرب 56، ولكنها لم تنشط بالقدر الكافي إلا بعد حرب 67، وكان من الطبيعي أن تتحمل الحركة الإسلامية لا سيما الإخوان العبء الأكبر من ذلك، إلا أن قيادة الإخوان في فلسطين رأوا أنهم في حاجة إلى إعداد وتربية قبل الدخول في مواجهات مع اليهود، مما دعا مجموعة من الإخوان أن ينشقوا عليهم ويؤسِّسوا حركة "فتح" -ومنهم "ياسر عرفات" نفسه- التي بدأ تكوينها في عام 56، وصدر بيانها الأول عام 65، وكانت أبرز عملياتها "معركة الكرامة" عام 68، وكان "عبد الناصر" يأخذ منها موقفًا عدائيًّا في أول الأمر؛ لكراهيته الشديدة لكل ما هو إخواني، ولأنه يدعم منظمة التحرير التي نشأت بقرار من جامعة الدول العربية، إلا أن هزيمة 67 وانتصار "فتح" في معركة الكرامة جعله يتبنى "فتح"، بل دَعَم ضمَّها إلى المنظمة، ودعم "ياسر عرفات" في الوصول إلى قيادة المنظمة، مما كان له أثر في تخلي "ياسر عرفات" عن التوجه الإسلامي، وتبنيه للتوجه الثوري أيًّا ما كان ناصريًّا أو شيوعيًّا أو شيعيًّا، و لذلك يمَّم "عرفات" وجهه شطر "الثورة الإيرانية" فور قيامها، ففوجئ بأن الشرط الرئيسي لهم لكي يقدموا له دعمـًا فعالاً هو أن ينسلخ تمامًا من العرب، ويعلن انضمامه إلى "الثورة الإيرانية"، فرفض مما جعله لا يحصل منهم إلا على الفتات؛ والذي أخذوا له ثمنـًا غاليـًا، وهو تولي "منظمة فتح" تدريب كوادر "حركة أمل الشيعية"، بل إن "ياسر عرفات" لما أجبر على ترك لبنان عام 82 ترك معظم أسلحته لـ"حركة أمل"؛ على أمل أن تقوم بالدفاع عن اللاجئين الفلسطينيين في "لبنان"، التي كانت تدور فيها حرب أهلية طاحنة، كان الفلسطينيون دائمًا مستهدفين فيها؛ لأنهم -من وجهة كافة الأحزاب المتناحرة- يعتبرون إضافة لرصيد أهل السنة في لبنان
إلا أن "أمل" خذلت الفلسطينيين في مذبحة "صابرا وشاتيلا" الأولى عام 82، والتي نفذتها قوات الكتائب النصرانية في حماية وحراسة القوات الإسرائيلية، وفي ظل صمت تام من قوات "أمل" الشيعية، التي ورثت السلاح الفلسطيني غنيمة باردة، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد؛ بل قامت منظمة "أمل" نفسها بمذبحة "صابرا وشاتيلا" الثانية، والتي أنست الناس ما فعله اليهود والنصارى في المذبحة الأولى؛ وذلك أن حركة "أمل" في أحد أطوار الحرب الأهلية اللبنانية فرضت حراسة على مخيمات "صابرا وشاتيلا" لمنع الفلسطينيين من دعم أهل السنة، ثم ادعت إحدى دوريات الأمن التابعة لحركة "أمل" أن صبيًّا فلسطينيًّا تعرض لهم، فاقتحموا المخيمات، وقاموا بمذبحة بشعة في إحدى مستشفيات المخيم، ثم دار قتال شرس لمدة أربعين يومًا عرقلت حركة "أمل" أثناءه أي محاولة للصلح إلا إن سقط مخيم "صابرا"، وكان تعليق معظم شهود العيان على ما ارتكبته قوات "أمل": " لقد فعل هؤلاء بنا ما لم يفعله اليهود"، ثم جلسوا للصلح الذي أعاد حصار "أمل" للمخيمات مع فض الاشتباك.
لله رب العالمين.